الثلاثاء، 28 سبتمبر 2010

الرحمن على العرش استوى

.

تفسير قول الله تعالى : الرحمن على العرش استوى

قال المؤلف رحمه الله : تَفسِيرُ الآيةِ: ﴿ الرحمن على العرش استوى﴾[5 سورة طه] .

يَجِبُ أن يكونَ تفسيرُ هذه الآية بغيرِ الاستِقرارِ والجلوسِ ونحوِ ذلكَ ويَكفُر من يعتَقِدُ ذَلِكَ .

الشرح:الذي يعتقدُ أن معنى قولِ الله تعالى: ﴿ الرحمن على العرش استوى﴾(5) جَلَسَ أو استقرَ أو حاذَى العرشَ يَكفُر.

قال المؤلف رحمه الله: فَيَجِبُ تَركُ الحَملِ على الَظاهِر بَل يُحَملُ على مَحْملٍ مُستَقيمٍ في العُقُولِ فتُحمَلُ لفظَةُ الاستِواءِ على القَهرِ ففي لُغَةِ العَرَبِ يُقالُ استَوى فُلانٌ على المَمَالِكِ إذا احتَوَى على مَقَالِيدِ المُلكِ واستَعلى على الرقَابِ.

الشرح:ءاية الاستواءَ تُحملُ على القهرِ ، أو يُقالُ استوى استواءً يليقُ به، أو يقال :

﴿ الرحمن على العرش استوى ﴾ بلا كيفٍ ، أما من أرادَ التأويلَ التفصيليَ فيقولُ قَهَرَ ويجوزُ أن يقولَ استولى.

ومعنى قول المؤلف: (( واستعلى على الرقَابِ )) اي استولى على الأشخاصِ اي على أهل البلدِ.

ومعنى قَهرِ الله للعرشِ الذي هو أعظمُ المخلوقاتِ أن العرشَ تحت تصرُّف الله هو خلقَهُ وهو يحفظهُ ، يحفظُ عليهِ وجودهُ ولولا حفظُ الله تعالى له لهَوى إلى الأسفلِ فتحطَّمَ ، فالله تعالى هو أوجدَهُ ثم هو حفظهُ وأبقاهُ ، هذا معنى قَهَرَ العرشَ ، هو سبحانَهُ قاهرُ العالم كلّه ، هذه الشّمسُ والقمرُ والنّجومُ لولا أن الله يحفظُها على هذا النّظامِ الذي هي قائمةٌ عليه لكانت تهاوَت وحطَّم بعضُها بعضًا واختلَّ نظامُ العالمِ .

والإنسانُ قهرَهُ الله بالموتِ ، أيُّ مَلِكٍ وأيُّ إنسانٍ رُزِقَ عمرًا طويلاً لا يملكُ لنفسِهِ أن يحميَ نفسَهُ من الموتِ فلا بدَّ أن يموتَ .

وليُعلَم أن الاستواءَ في لغةِ العربِ له خمسة عشرَ معنًى كما قالَ الحافظُ أبو بكر بن العربيّ ومن معانيهِ : الاستقرارُ والتَّمامُ والاعتدَال والاستعلاءُ والعلوُّ والاستيلاءُ وغير ذلك ، ثم هذه المعاني بعضُها تليقُ بالله وبعصُها لا تليقُ بالله . فما كان من صفات الأجسام فلا يليق بالله .

يقولُ حسن البنّا في كتابِ العقائدِ الأسلاميَّةِ : ( السَّلفُ والخلفُ ليس بينهم خلافٌ على أنه لا يجوزُ حملُ ءايةِ الاستواءِ على المعنى المتبادرِ ) وهذا الكلام من جواهِرِ العلمِ .

فإن قالَ الوهَّابيُّ : ﴿ الرحمن على العرش استوى ( 5) ﴾ ( على ) أي فوق ، يقالُ لهم : ماذا تقولونَ في قولِهِ تعالى : ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10 ) ﴾ [ سورة المجادلة ] هل يفهمونَ من هذه الآية أن العبادَ فوق الله ؟ فإن ( على ) تأتي لعلوّ القدرِ وللعلوّ الحِسّيّ ، وقد قالَ الله تعالى مُخبرًا عن فرعون أنه قال : ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ( 24 ) ﴾ [ سورة النازعات ] أرادَ علوَّ القهرِ بقولِِهِ : ﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) ﴾ .

وقد ذَكَرَ الإمامُ أبو منصورٍ الماتريديُّ في تأويلاتِهِ في قولِهِ تعالى ﴿ ثُمَّ استوى على العرش 54) ﴾ [ سورة الأعراف ] يقولُ : ( أي وقد استوى ) ، ومعناهُ أنَّ الله كانَ مستويًا على العرشِ قبلَ وجودِ السمواتِ والأرضِ ، وبعضُ الناس يتوهَّم من كلمة ( ثم ) أن الله استوى على العرشِ بعد أن لم يكن يظنُّونَ أن ثُمَّ دائمًا للتأخُّر ، ويصحُّ في اللُّغة أن يقالَ أنا أعطيتُكَ يوم كذا كذا وكذا ثم إني أعطيتُكَ قبلَ ذلك كذا وكذا ، فإن ( ثم ) ليست دائمًا للتَّأخُّرِ في الزَّمن ، أحيانًا تأتي لذلكَ وأحيانًا تأتي لغيرِ ذلك ، قال الشَّاعر :

إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أبُوهُ ثُمّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهْ

ويُروى عن أمّ سلمةَ إحدى زوجاتِ الرّسولِ ويروى عن سفيانَ بنِ عيينةَ ويروى عن مالكِ بن أنسٍ أنهم فسَّروا استواء الله على عرشِهِ بقولهم: الاستواءُ معلومٌ ولا يقالُ كيفٌ والكيفُ غيرُ معقولٍ . ومعنى قولهم :

( الاستواء معلومٌ ) معناهُ معلومٌ ورودُهُ في القرآنِ أي بأنه مستوٍ على عرشِهِ استواءً يليقُ به ، ومعنى :

( والكيفُ غير معقولٍ ) أي الشَّكلُ والهيئةُ والجلوسُ والاستقرارُ هذا غير معقولٍ أي لا يقبلُهُ العقلُ ولا تجوزُ على الله لأنها من صفات الأجسام ، وسُئِلَ الإمامُ أحمدُ رضي الله عنه عن الاستواء فقال : ( استوى كما أخبَرَ لا كما يَخطُرُ للبشرِ) .

وقد ثبَت عن الإمامِ مالكٍ بإسنادٍ قويّ جيدٍ أنه قال في استواء الله : ( استوى كما وَصَفَ نفسَهُ ولا يقالُ كيف وكيف عنه مرفوعٌ ) ، ولا يصحُّ عن مالكٍ ولا عن غيرِهِ من السلفِ أنه قال الاستواءُ معلومٌ والكيفيةُ مجهولةٌ فهذه العبارةُ لم تَثبُت من حيثُ الإسنادُ عن أحدٍ من السلفِ ، وهي موهِمَةٌ معنًى فاسدًا وهو أن استواءَ الله على العرشِ هو استواءٌ له هيئةٌ وشكلٌ لكن نحنُ لا نعلمُهُ وهذا خلافُ مرادِ السلفِ بقولهم : ( والكيفُ غيرُ معقول ) . وهذه الكلمةُ قالها بعض الأشاعرة مع تنزيهِهِم لله عن الجسميةِ والتحيزِ في المكان والجهةِ وهي كثيرةُ الدورانِ على ألسنةِ المشبهةِ والوهابيةِ لأنهم يعتقدونَ أن المرادَ بالاستواءِ الجلوسُ والاستقرارُ أي عند أغلبِهم وعندَ بعضِهم المحاذاةُ فوق العرش من غير مماسة ، ولا يدرونَ أن هذا هو الكيفُ المنفيُّ عن الله عند السلفِ ، ولا يُغْتَرُّ بوجودِ هذه العبارةِ في كتابِ إحياء علومِ الدينِ ونحوهِ ولا يريدُ مؤلفُهُ الغزاليُّ ما تفهمُهُ المشبهةُ لأنه مُصَرّحٌ في كتبِهِ بأن الله منزهٌ عن الجسميةِ والتحيزِ في المكانِ وعن الحَدّ والمقدارِ لأن الحدَّ والمقدارَ من صفاتِ المخلوقِ قال الله تعالى :﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ (8) ﴾ [ سورة الرعد] . فالتحيز في المكان والجهة من صفات الحجم والله ليس حجمًا . وما يوجد في بعض كتب الأشاعرة من هذه العبارة الاستواء معلوم والكيفية مجهولة غلطة لا أساس لها عن السلف لا عن مالك ولا عن غيره وهي شنيعة لأنها يفهم منها المشبه الوهابيّ وغيره أن الاستواء كيفٌ لكن لا نعلمه مجهول عندنا . وأما من أوردها من الأشاعرة فلا يفهمون هذا المعنى بل يفهمون أن حقيقة الاستواء غير معلوم للخلق فالوهابية تقصد بها ما يناسب معتقدها من أن الله حجم له حيّز . والعجب منهم كيف يقولون إنّ الاستواء على العرش حسيّ ثم يصفونه بالكون مجهولا . ولعلهم يريدون بهذا هل هو قعود على شكل تربيع أم على شكل ءاخر.

فإن قيلَ : لماذا قالَ الله تعالى بأنه استوى على العرشِ على حَسَبِ تفسيرِكم بمعنى قَهَر وهو قَاهرُ كلّ شئٍ ؟ نقول لهم : أليسَ قال : ﴿ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( 129) ﴾ [ سورة التوبة] مع أنه ربُُّ كلّ شئٍ؟!

قال المؤلف رحمه الله : كَقَوْلِ الشَّاعِرِ :

قَد اسْتَوَى بِشْرٌ علَى العِراقِ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ ودَمٍ مُهْراقِ

الشرح: ( مهراق) تُلفظ القافُ المكسورة وكأَنَّ في ءاخرِها ياءً ولو لم تكن الياءُ مكتوبةً ، والمعنى أنه سَيطَرَ على العراقِ ومَلَكَهَا من غير حَربٍ وإراقَةِ دِمَاءٍ .

قال المؤلف رحمه الله : وفَائِدَةِ تَخْصِيص العَرْشِ بالذّكْرِ أنَّهُ أعْظَمُ مَخلُوقَاتِ الله تَعَالى حجمًا فيُعْلَمُ شُمُولُ ما دُوْنَه مِنْ بَابِ الأَوْلَى . قَالَ الإمَامُ عَلِيٌّ : ( إنَّ الله تَعَالى خَلَقَ العَرْشَ إِظْهَارًا لقُدْرَتِهِ ، ولمْ يَتّخِذْهُ مَكَانًا لِذَاتِهِ ). رواهُ الإمامُ المحدثُ الفقيهُ اللغويُّ أبو منصورٍ التميميُّ في كتابهِ التبصرة .

الشرح: إذا قلنا : الله تعالى قهر العرش معناهُ قَهَرَ كلَّ شئٍ وإنما خصَّ العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات حجمًا وهو محدود لا يعلم حده إلا الله . وبئسَ معتقدُ ابن تيمية فإنه قال : الله محدود لكن لا يعلم حده إلا هو اهـ فيقال لمن يقول قوله هذا قد قلت الله محدود لكن لا يعلم حده إلا هو فقد شبهته بالعرش فماذا يفيد قولكم في الله إن له حدًا لكن لا يعلم حده إلا هو .

فإن قيلَ : كيفَ تقولونَ خَلقَهُ إظهارًا لقدرتِهِ ونحنُ لا نَراهُ ؟ نقولُ : الملائكةُ الحافُّون حولَهُ يرونَهُ والملائكةُ لما ينظرونَ إلى عِظَمِ العرشِ يزدادونَ خوفًا ويزدادونَ عِلمًا بكمالِ قدرةِ الله ، لهذا خَلَقَ الله العرشَ . وقولُ سيدنا علي الذي مرّ ذكره رواهُ الإمام أبو منصورٍ البغداديُّ في كتابه التبصرة.

قال المؤلف رحمه الله: أَوْ يُقَالُ : اسْتَوَى اسْتِوَاءً يَعْلَمُهُ هُوَ مَع تَنزِيْهِهِ عن اسْتِواءِ المخْلُوقِيْنَ كَالجُلوسِ والاسْتِقرارٍ .

الشرح: مَن شَاءَ يقولُ : استوى استواءً يليقُ بهِ من غير أن يُفَسّرَهُ بالقهرِ أو نحوهِ فيكونُ أوَّل تأويلاً إجماليًّا ، ومن شَاءَ أوَّلَ تأويلاً تفصيليًّا فقال: استوى أي قَهَرَ .

قال المؤلف رحمه الله : واعْلَم أَنَّه يَجِبُ الحَذَرُ مِنْ هؤلاءِ الذينَ يُجِيزُوْنَ علَى الله القُعُودَ علَى العَرْشِ والاسْتِقْرارِ عليه مُفَسّرينَ لِقَوله تعالى : ﴿ الرحمن على العرش استوى(5) ﴾ بالجُلُوسِ أو المحاذاةِ من فوق.



الشرح: هؤلاءِ هم الوهابية وقَبلهم أناسٌ كانوا يعتقدونَ ذلكَ ففسَّروا الآيةَ بالجلوسِ فقالوا : الله تعالى قاعدٌ على العرشِ ، هؤلاءِ يجبُ الحَذَرُ منهم .

قال المؤلف رحمه الله : ومُدَّعِينَ أَنَّه لا يُعقَلُ مَوْجُودٌ إلا في مَكَانٍ ، وحُجَّتُهم دَاحِضَةٌ.

الشرح: يقولون : كيفَ يكونُ موجودٌ بلا مكانٍ ، والموجودُ لا بدَّ له من مكانٍ ، الله موجود إذًا له مكانٌ ، وحجَّتُهم هذِهِ داحضةٌ باطلةٌ ، لأنهُ ليسَ من شرطِ الوجودِ التحيزُ في المكانِ أليسَ الله كان موجودًا قبل المكانِ والزمانِ وكلّ ما سواهُ بشهادةِ حديثِ : ( كان الله ولم يكن شئٌ غيرُهُ ) فالمكانُ غيرُ الله والجهاتُ الحجمُ غيرُ الله فإذًا صحَّ وجودُهُ تعالى شرعًا وعقلاً قبلَ المكانِ والجهاتِ بلا مكانٍ ولا جهةٍ ، فكيفَ يستحيلُ على زعم هؤلاءِ وجودُهُ تعالى بلا مكانٍ بعد خلقِ المكانِ والجهاتِ . ومصيبةُ هؤلاءِ أنهم قاسوا الخالقَ على المخلوقِ قالوا : كما لا يُعقَلُ وجودُ إنسانٍ أو مَلَكٍ أو غيرِ ذلكَ من الأجسامِ بلا مكانٍ يستحيلُ وجودُ الله بلا مكانٍ فَهَلَكوا .

قال المؤلف رحمه الله : ومُدَّعِيْنَ أيضًا أنَّ قَوْلَ السَّلَفِ استوى بلا كَيْفٍ مُوافِقٌ لذَلِكَ وَلم يَدْرُوا أنَّ الكَيْفَ الذي نَفَاهُ السَّلَفُ هُوَ الجُلُوسُ والاسْتِقْرارُ والتّحَيُّزُ إلى المَكَانِ والمُحَاذاةُ وكلُّ الهيئاتِ من حركةٍ وسكونٍ وانفعَالٍ .

الشرح: المحاذاةُ والجلوسُ والاستقرارُ هذا الكيفُ الذي نفاهُ السَّلفُ الذين قالوا في قوله تعالى :

﴿ الرحمن على العرش استوى(5) ﴾ استوى بلا كيفٍ ، ومرادُهُم بقولهم بلا كيفٍ ليسَ استواءَ الجلوسِ والاستقرارِ والمحاذاةِ . المحاذاةُ معناهُ كونُ الشّئِ في مقابلِ شئٍ ، فنحنُ حينَ نكونُ تحتَ سطحٍ فنحنُ في محاذاتِهِ ، وحينَ نكونُ في الفضاءِ نكونُ في محاذاةِ السماءِ ، والسماءُ الأولى تحاذي السماءَ التي فوقَها ، و الكرسي يحاذي العرشَ ، والعرش يحاذي الكرسيّ من تحت ، والله تَعَالَى لا يجوزُ عليهِ أن يكونَ مضطجِعًا عليهِ ولا أن يكونَ في محاذاتِهِ ، إذ المحاذي إما أن يكونَ مساويًا للمحاذَى وإما أن يكونَ أكبر منهُ وإما أن يكونً أصغر منهُ ، وكلُّ هذا لا يصحُّ إلا للشّئ الذي له جِرمٌ ومساحةٌ والذي له جِرمٌ ومساحةٌ محتاجٌ إلى من رَكَّبَهُ ، والله منزَّهٌ عن ذلك .

صفات الله الواجب معرفتها

.

صفات الله الواجب معرفتها. العقيدة السلفية الصحيحة .

صفات الله الواجب معرفتها

الحمد لله الذي أرسل رسوله الأعظم، ونبيه الأفخم الذي دعا الناس إلى الخير والرشاد، وأيده الله بالمعجزات الباهرات، وأنطقه بالحكم البالغة، صلى الله عليه وعلى ءاله وصحابته الأخيار، ما أشرقت شمس وتعاقب ليل ونهار.

وبعد، فقد قال ربنا عزَّ وجلَّ في كتابه الكريم }فلولا نفر من كل فرقةٍ منهم طائفةٌ ليتفقَّهوا في الدينِ وليُنذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون{، وقال تعالى }فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات{، فهذه الآية إشارة إلى علم التوحيد بقوله تعالى }فاعلم أنه لا إله إلا الله{، وإشارة إلى علم الفروع ببقية الآية، وقد قدَّم الله تعالى ما فيه إشارة إلى علم التوحيد على ما فيه إشارة إلى علم الفروع، فعلمنا من ذلك أنه أولى من علم الفروع وهو أفضل العلوم وأعلاها وأشرفها، وقد خصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه بالترقي في هذا العلم فقال: "فوالله إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية" رواه البخاري.

وقد اعتنى العلماء بهذا العلم تدريسًا وتحفيظًا وتفهيمًا حتى قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: "أحكمنا هذا قبل ذاك" أي أتقنا علم التوحيد قبل فروع الفقه، وقال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه في الفقه الأبسط: "اعلم أن الفقه في الدين أفضل من الفقه في الأحكام"، وقال إمام الهدى أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه: "أول ما يجب على العبد العلم بالله ورسوله ودينه".

صفات الله : الصفة الأولى- الوجود

الأصلُ الذي تُبنى عليه العقيدةُ الإسلاميةُ معرفةُ الله ومعرفةُ رسولِهِ، فمعرفةُ الله هو العلمُ بأنه تعالى موجودٌ، فيجب اعتقادُ أنه تعالى موجودٌ في الأزلِ أي لا ابتداءَ لوجودِهِ ، قال تعالى: }أفي الله شَكٌ{ وقال: }هو الأوَّلُ{ أي هو الذي لا ابتداءَ لوجودِهِ، روى البخاريُّ في الصحيحِ والبيهقيُّ وأبو بكرِ بن الجارودِ عن عمرانَ بنِ الحُصينِ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جاءَه قومٌ من أهلِ اليمنِ فقالوا: يا رسولَ الله جئناك لنَتَفَقَّهَ في الدينِ ولنسألَكَ عن بدءِ هذا الأمرِ ما كانَ، وفي لفظٍ: "عن أولِ هذا الأمر"، قال: "كان الله ولم يكن شىءٌ غيرُهُ وكان عرشُهُ على الماءِ وكتَبَ في الذّكرِ كُلَّ شىءٍ". كانَ سؤالُهُم عن أولِ العالمِ ثم الرسولُ أجابَهُم بما هو أهَمُّ من ذلِك وهو قولهُ: "كان الله ولم يكن شىءٌ غيرُهُ" أي أن الله موجودٌ في الأزلِ لا ابتداءَ لوجودِهِ ولم يكن في الأزلِ معه شىءٌ أي لا زمانٌ ولا مكانٌ ولا أجرامٌ([5]).

وأتبَعَ ذلك جوابَهُم بأن الماءَ والعرشَ وُجِدا قبلَ غيرهِما من المخلوقاتِ فأعلمهُم أن الماء قبل العرشِ لأنه لما قال لهم "وكان عرشُهُ على الماءِ" أفهمَهُم أن الماءَ خُلق قبل العرشِ.

وأما معرفةُ الرسولِ فهو العِلمُ بأنهُ مبلغٌ عن الله صادقٌ فيما جاءَ به في الإيجابِ والتحريمِ والإخبارِ عن ما مضى وعما ما سيَحدُثُ في الدنيا والبرزخِ والآخرةِ، فمن جزَمَ بذلك بلا شكٍّ ولا ارتيابٍ فهو عارفٌ بالله ورسولِهِ ومؤمِنٌ بالله ورسولِهِ سواءٌ عرَفَ الدليلَ العقليّ على ذلك أو لم يَعرِف. وضلت المعتزلةُ باشتراطِ معرفَةِ الدليلِ العقليّ لصحةِ الإيمانِ، وأما أهلُ الحقّ فلا يَشتَرطونَ ذلك ولكنهُم يرونَ الاستدلالَ على وجودِ الله تعالى بدليلٍ عقليّ ولو كان إجماليًّا واجبًا، وهذا الدليل الإجماليُّ حاصلٌ لكلّ مؤمنٍ ولو لم يعرف ترتيبَ هذا الدليلِ كأن يقالَ العالمُ مُتغيرٌ وكلُّ مُتغيرٍ حادثٌ فالعالم حادث فلا بد له من محدِثٍ وهذا المحدِثُ هذا الموجِدُ هو الذي يسمى الله، فإن من نظرَ بعقلِهِ نظرًا صحيحًا يدلُّه على ذلك. والاستدلالُ الإجماليُّ لا يخلو منه المسلمُ العالِمُ أو العاميُّ ويسمى ذلك الاستدلالُ استدلالا طبيعيًّا. ولا يُتصَوَّرُ فِقدانُ الدليلِ الإجماليّ في مسلمٍ إلا فيمن نشأ على شاهقِ جبلٍ سمع أُناسًا يقولونَ إن للخلقِ ربًّا خلقهم يستحقُّ العبادَة عليهم، فصدَّقهُم إجلالا لهم عن الخطَإ واعتقدَ ذلك ولم يتفكر في شىء من الدليل، وهذا أيضًا إيمانُه صحيحٌ لكنه يجبُ عليه الاستدلالُ. فالمؤمنُ الذي لم يستدلَّ قال أهلُ الحقّ إنَّهُ عاصٍ وذلك لأن الله تباركَ وتعالى أمَرَ بالتّفكُّرِ في خلقِهِ ليستدلوا بحالِ العالمِ على وجودِ خالقِهِ. ثم بعد معرفةِ وجودِ الله تعالى وتفردِه باستحقاقِ العبادةِ أي نهاية التذللِ يجبُ عليه معرفة بقيةِ الثلاث عَشرَةَ صفة من صفاتِ الله وهي: القِدَمُ، والبقاءُ، والمخالفةُ للحوادثِ، وقيامُهُ بنفسِهِ، والوحدانيَّةُ، والحياةُ، والقدرةُ، والإرادةُ، والعلمُ، والسمعُ، والبصرُ، والكلامُ.

والدليلُ الإجماليُّ لهذه الصفات هو أن يقالَ: لو لم يكُن الله تعالى متصفًا بهذه الصفاتِ لم يكنِ العالمُ موجودًا، فهذا الاستدلالُ الإجماليُّ كافٍ للاستدلالِ الواجبِ.

وأما الأدلةُ التفصيليَّةُ فمعرفتها ليست من فروضِ العينِ بل هي من فروضِ الكفاية، فإذا وجد في المسلمين من يعرفُ بقية الصفات الثلاث عشرة وما يتبعُ ذلك من أصولِ الاعتقادِ بالدليلِ العقليّ فقد أسقَطَ الحرج عن غيرِه من المسلمينَ وذلك لأنَّه يحتاجُ إلى ذلك لردّ شُبهِ الملاحِدَةِ والمبتدِعَةِ في الاعتقادِ. فلو جاءَ مُلحدٌ وقال للمسلمينَ أعطوني دليلا عقليًّا على وجودِ الله تعالى فلا بد من رفعِ شُبهِهِ وتشكيكاتِهِ بإيرادِ أدلَّةٍ تفصيليةٍ من البراهينِ العقليةِ لأن هذا الملحدَ إذا قيل له قال الله تعالى: }أفي الله شَكٌ{ وقال تعالى: }وَهُوَ على كلِّ شَىءٍ قَديرٌ{ وقال: }وهو بكلِّ شىءٍ عليمٌ{ وقال: }هُوَ الأوَّلُ{ وقال: }إنَّ الله لغنيٌّ عن العالمين{ ونحو ذلك، قال الملحدُ أنا لا أؤمنُ بكتابِكُم، أنا لا أريدُ أن تذكرَ لي من كتابِكم شيئًا، فكيفَ تدفَعُ شُبَهَهُ وتشكيكاتِه؟ مثالٌ لذلك لو قال عابدُ الشمسِ: إن معبودي محسوسٌ ظاهرٌ نافعٌ للإنسانِ ولسائرِ الحيوانِ والنباتِ والماءِ والهواءِ كيف لا يكونُ ديني هذا حقًّا ونحنُ وأنتُم نعلم أنَّ هذا موجودٌ وهي محسوسةٌ بحاسةِ البصرِ، فكيف تقولون إنَّ دينيَ هذا باطلٌ، فإن هذا إن قيل له قال تعالى كذا يقول أنا لا أؤمنُ بكتابِكُم أُريدُ منكُم دليلًا عقليًّا، إن وجدتُم ذلك وأقمتُم لي فأنا أُسَلّم لكم وإلا فَكيفَ تطلبونَ مني أن أؤمنَ بدينكُم. فكيف تُقامُ على هذا الحجةُ؟.

فهؤلاءِ الذين يظنونَ أن علمَ التوحيدِ لا يشتملُ على بيانِ البراهينِ العقليةِ والبراهينِ النقليةِ مع الحاجةِ الشديدةِ إلى ذلك، لا يستطيعونَ أن يُفحِموا هذا الكافرَ وإنما يستطيعُ إفحامَهُ السُّني الذي يُنَزّهُ اللهَ عن الكيفِ والحدّ والتحيُّزِ بالمكانِ والجهةِ، فيقول له: معبودُك هذا له حدٌّ وشكلٌ فيحتاجُ إلى من جعلَهُ على هذا الحدّ والشكلِ، والمعبودُ الحقُّ هو الموجودُ الذي ليس له حدٌّ ولا شكلٌ فلا يحتاجُ إلى غيرِه، أما معبودُك الذي هو الشمسُ فلا يصحُّ في العقلِ أن يكونَ هو أَوجَدَ نفسَهُ على هذا الحدّ وهذا الشكلِ، إنما الذي يستحِقُّ أن يُعبَدَ هو معبودُنا الذي هو موجودٌ لا كالموجوداتِ، فهنا ينقطع عابِدُ الشمسِ.

والقرءانُ أرشَدَ إلى الاستدلالِ العقليّ بعِدّةِ ءاياتٍ كقوله تعالى: }وفي أنفسكم أفلا تُبصِرُون{ أي أنَّ في أنفُسِكُم دليلا على وجودِ الله. وذكر لذلك بعضُ عُلماءِ العقيدَةِ مثالا وهو أن يقالَ أنا كنتُ بعد أن لم أكن وما كان بعد أن لم يكُن فلا بدَّ له من مُكوِّنٍ فأنا لا بُدَّ لي من مُكوِّنٍ.

ويُستنتَجُ من هذا القولِ انّ ذلك المُكَوِِّنَ لا يكون شبيهًا لي ولا لشىءٍ ما من الحادثاتِ التي هي مشارِكةٌ لي في الحدوثِ، وهذا المُكَوِّنُ هو المُسَمَّى الله.

--------------------------------------------------------------------------------

صفات الله : الصّفَةُ الثانِيَةُ- القِدم

القِدمُ معناهُ الأزلية فإذا قيل الله قديمٌ معناه لا ابتداءَ لوجودِهِ، هذا في حق الله أما في حق غيره إذا قيل قديم فمعناه مضى عليه زمانٌ طويلٌ، كذلك الأزليُّ، فالله تعالى هو الأزليُّ بهذا المعنى أي لا ابتداءَ لوجودِهِ فلا أزلي إلا الله، وأما الأزليُّ بمعنى قِدَمِ العهدِ والزمنِ فيوصفُ به المخلوقُ لغةً وعلى لسانِ حَمَلَةِ العلمِ. أما لُغةً فقد قال الفيروز ابادي صاحب القاموس في مادةِ هرم: الهرمانِ بِناءانِ أزليانِ بمصرَ. فالله تبارك وتعالى هُوَ القديمُ، هو الأزليُّ بمعنى لا ابتداءَ لوجودِهِ، وما سواهُ لا يقالُ عنه قديمٌ ولا أزليٌّ بهذا المعنى إلا بالمعنى الثاني وهو تقادمُ العهدِ وطولُ الزمنِ، ولم يَرِد في القرءانِ إطلاقُ القديمِ على الله بهذا اللفظِ لكن وردَ معناه قالَ تعالى: }هُوَ الأوَّلُ{ لأنهُ لا يجوزُ تفسيرُهُ بقدَمِ العهدِ لأنَّ قِدمَ العهدِ صفةٌ من صفاتِ المخلوقاتِ والله تعالى كانَ قبلَ الزمانِ فلا يوصفُ بقدمِ الزَّمَنِ.

قال أهلُ الحقّ: الموجوداتُ ثلاثةُ أقسامٍ: القسم الأول: أزليٌّ أبديٌّ وهو الله تعالى وصفاتُه فقط وصفاتُه كلُّها أزليةٌ بأزليةِ الذاتِ، ولمَّا ثبتَت الأزليةُ لذاتِ الله تعالى ثبتَت الأزليةُ لصفاتِهِ، وورَدَ في غيرِ هذا اللفظِ الدِلالةُ على أزليةِ الله تعالى في القرءانِ الكريمِ في عدةِ مواضِعَ كقوله تعالى: }وكان الله غفورًا رحيمًا{ ونحو ذلك ومعناه إنه غفورٌ رحيمٌ في الأزلِ، كذلك قوله تعالى: }وكان الله عليمًا حكيمًا{ فالأَزليةُ في القرءانِ لو لم يَرِد نصُّها لكِنَّ معناها ثابتٌ في أكثر من موضِعٍ في القرءانِ الكريمِ، وفي الحديثِ الصحيحِ حديثُ البخاريّ الذي سبَقَ ذِكرُهُ: "كان الله ولم يكن شىءٌ غيرُهُ" فإذا عُرِفَ هذا فمن ادَّعى الأزليةَ لشىءٍ غيرِ الله فقال العالمُ أزليٌّ بنوعِهِ أي بجنسِهِ وأشخاصِهِ فهو كافرٌ، ومن قال العالم أزليٌّ بجنسه لا بأفراده المعينة فإنها مخلوقة حادثة فهو كافر أيضا وهو رأيُ الفلاسفَةِ المحدَثينَ و ابن تيمية.

القسمُ الثاني من الموجودِ: أبديٌّ لا أزليٌّ وهو الجنةُ والنارُ.

القسمُ الثالثُ: لا أزليٌّ ولا أبديٌّ وهو ما سوى الجنةِ والنارِ من المخلوقاتِ ويُلحقُ بهما ما في الجنةِ من الحورِ والولدانِ وأشياء أخرى على ما قال بعضُ أهلِ العلم.

وأما أزليٌّ لا أبديٌّ فهذا مستحيلٌ، الأزليُّ لا يكونُ إلا أبديًّا فالله تعالى أزليٌّ أبديٌّ بصفاتِهِ، أي أن صفاته أيضًا أزليةٌ أبديةٌ.

--------------------------------------------------------------------------------

صفات الله: الصفةُ الثالثةُ: البقاء

البقاءُ معناه لا نهايَةَ لوجودِهِ تعالى لأنَّ ما ثبتَ له القِدَمُ وجبَ له البقاءُ فيمتَنِعُ عليه العدَمُ أي يستحيلُ عليه العدمُ.

والبرهانُ على وجوبِ البقاءِ لله تعالى من المنقولِ قولُ الله تعالى }ويبقى وجهُ ربِّكَ ذو الجلال

والإكرام{ الوجهُ هنا معناه الذاتُ، وقال البخاريُّ:: "إلا مُلكَهُ، ويقال: إلا ما أريدَ به وجهُ الله".

وأما برهانُ البقاءِ العقليّ فهو أن يقالَ: لو لم يكنِ الله تعالى باقيًا لم يكنِ العالمُ موجودًا لكنَّ العالمَ موجودٌ فثبتَ أن الله تعالى باقٍ. والبقاءُ الذي هو واجبٌ لله هو البقاءُ الذاتيُّ أي ليس بإيجابِ شىءٍ غيرِه له بل هو يستحقُّهُ لذاته لا لشىءٍ ءاخرَ، بقاءُ الله تعالى ذاتيٌّ ولا يكون لشىءٍ سواهُ هذا البقاءُ الذاتيُّ. إنما البقاءُ الذي يكون لبعضِ خَلقِ الله تعالى كالجنةِ والنارِ الثابتُ بالإجماعِ فهو ليس بقاءً ذاتيًّا لأنَّ الجنة والنارَ حادثتانِ والحادِثُ لا يكون باقيًا لذاتِهِ، فبقاءُ الجنةِ والنارِ ليس لذاتهما بل لأن الله تعالى شاء لهما البقاءَ.

--------------------------------------------------------------------------------

صفات الله :الصفةُ الرابعةُ: الوحدانية

ومعناه أنَّ الله تبارك وتعالى ليسَ له ثانٍ وليسَ مركَّبًا مؤلَّفًا كالأجسامِ كالعرشِ والكرسيّ والجنةِ والنارِ والسمواتِ السبعِ والإنسانِ والملائكةِ والجنّ فإنَّ هؤلاء أجسامٌ مؤلفةٌ أي تقبلُ الانقسامَ . العرشُ الكريمُ مؤلَّفٌ من أجزاء فيستحيلُ أن يكون بينه وبين الله مناسبةٌ كما يستحيلُ على الله تعالى أن يكون بينَه وبين شىءٍ من سائر خلقِهِ مناسبةٌ.

والبرهانُ العقليُّ على الوحدانيةِ أنه تبارك وتعالى لو لم يكن واحدًا وكان مُتَعَدّدًا لم يكن العالَمُ منتظمًا لكنَّ العالَمَ منتظِمٌ فوجَبَ أنَّ الله تعالى واحدٌ، وأما البرهانُ النقليُّ على وحدانيتِهِ تعالى فكثير من ذلك قول الله تعالى: }قل هو الله أحد{ ومن الأحاديث ما رواه البخاري أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا تعارَّ([6]) من الليل قال: "لا إله إلا الله الواحد القهار ربُّ السمواتِ والأرضِ وما بينهما العزيزُ الغفار".

--------------------------------------------------------------------------------

صفات الله الصفةُ الخامسةُ: القيامُ بنفسه تعالى

أي الاستغناءُ عن كلّ شىءٍ، فالله تبارك وتعالى مستغنٍ عن كل شىءٍ ومحتاجٌ إليه كلُّ شىءٍ سِواهُ، فلا يحتاجُ إلى مخصّصٍ له بالوجودِ لأنَّ الاحتياجَ إلى الغيرِ ينافي قِدَمَهُ، إذْ الاحتياج للغيرِ علامةُ الحدوثِ والله تباركَ وتعالى منزهٌ عن ذلك، وقد ثبتَ وجوبُ قِدَمِهِ وبقائهِ.

فالله تبارك وتعالى لا ينتفعُ بطاعةِ الطَّائعينَ ولا ينضرُّ بعصيانِ العصاةِ، وكلُّ شىءٍ سوى الله محتاجٌ إلى الله لا يستغني عن الله طرفةَ عينٍ، قال تعالى: }والله الغنيُّ وأنتم الفقراء{ [سورة محمد].

--------------------------------------------------------------------------------

صفات الله الصفةُ السادسةُ: مخالفته للحوادث

أي لا يُشبه المخلوقاتِ، والدليلُ العقليُّ على ذلك أنه لو كان يشبِهُ شيئًا من خلقِهِ لجازَ عليه ما يجوزُ على الخلقِ من التغيُّر والتطورِ والفناءِ، ولو جازَ عليهِ ذلك لاحتاج إلى من يُغَيّرُهُ والمحتاجُ إلى غيره لا يكونُ إلها فثبت أنه لا يشبِهُ شيئًا.

وأما البرهانُ النقليُّ لوجوبِ مخالفتِهِ للحوادِثِ فمن ذلك قوله تعالى (ليس كمثله شىء) وهو أوضحُ دليلٍ نقليٍّ في ذلك جاء في القرءانِ لأنَّ هذه الآية تُفهم التّنزيه الكُلّي لأنَّ الله تباركَ وتعالى ذَكَرَ فيها لفظَ شىءٍ في سياق النفي، والنكرة إذا أُورِدَت في سياق النفي فهي للشمولِ، فالله تباركَ وتعالى نفى بهذِه الجملةِ عن نفسِهِ مشابهة الأجرام والأجسام والأعراضِ فهو تباركَ وتعالى كما لا يشبه ذوي الأرواحِ من إنسٍ وجنٍ وملائكةٍ وغيرهِم لا يشبهُ الجماداتِ من الأجرامِ العُلوية والسّفلية لا يُشبِهُ شيئًا من ذلك، فالله تبارك وتعالى لم يُقيّد نفي الشَّبَهِ عنه بنوعٍ من أنواعِ الحوادثِ بل شمل نفي مشابهتِهِ لكلّ أفرادِ الحادثاتِ. ويشملُ هذا النفيُ تنزيهَهُ تعالى عن الكميةِ والكيفية، فالكميةُ هي مِقدارُ الجرم أي فهو تبارك وتعالى ليس كالجِرمِ الذي يدخُله المقدارُ والمِساحَةُ والحدُّ فهو ليس بمحدودٍ ذا مِقدارٍ ومَسَافَةٍ، ومن قال في الله تعالى إنَّ له حدًّا فقد شَبَّههُ بخلقِهِ لأنَّ ذلك يُنافي الألوهيةَ، والله تبارك وتعالى لو كان ذا حدّ ومقدارٍ لاحتاج إلى من جَعَلَهُ على ذلك الحدّ والمقدارِ كما تحتاجُ الأجرامُ إلى من جَعَلَها بحدودها ومقاديرها لأن الشىءَ لا يخلقُ نفسَه بمقدارِهِ، فالله تبارك وتعالى لو كان ذا حدّ ومقدارٍ كالأجرامِ لاحتاجَ إلى من جَعَلَهُ بذلكَ الحدّ لأنه لا يصحُّ في العقلِ أن يكونَ هو جَعَلَ نفسَه بذلك الحدّ، والمحتاجُ إلى غيرِهِ لا يكونُ إلها لأنَّ من شرطِ الألوهية الاستغناء عن كل شىء.

--------------------------------------------------------------------------------

صفات الله :الصفةُ السابعةُ: الحياة

الحياةُ في حقّ الله تعالى صفةٌ أزليةٌ أبديةٌ ليست كحياةِ غيرِهِ بروحٍ ولحمٍ ودمٍ.

والبرهانُ العقلي على كونِهِ تعالى حيًّا أنه لو لم يكن حيًّا لم يتصف بالقدرةِ والإرادةِ والعلمِ، ولو كان الله تعالى غير متصفٍ بهذه الصفاتِ لكانَ متصفًا بالضّدِ وذلك نقصٌ والله منزهٌ عن النقصِ.

ومما يدلُّ على وجوبِ حياتهِ تعالى وجودُ هذا العالم، فلو لم يكن حيًّا لم يُوجد شىءٌ من العالمِ، لكنّ وجودَ العالمِ ثابتٌ بالحِسّ والضرورةِ بلا شك.

والبرهانُ النقليُّ على الحياةِ ءاياتٌ عديدةٌ منها قولُ الله تعالى: }الله لا إله إلا هو الحيُّ{.

--------------------------------------------------------------------------------

صفات الله :الصفة الثامنةُ: القدرة

وهي صفةٌ أزليّةٌ ثابتةٌ لذاتِ الله تعالى ويصحُّ أن يقال قائمةٌ بذاتِ الله تعالى لأن المعنى واحدٌ لكن لا يقالُ ثابتةٌ في ذاتِ الله، والقدرة يتأتى بها الإيجاد والإعدامُ أي يوجدُ بها المعدومَ من العدمِ ويُعدمُ بها الموجود.

والبرهانُ العقليُّ على وجوبها لله تعالى هو أنه لو لم يكن قادرًا لكان عاجزًا ولو كان عاجزًا لم يُوجد شىءٌ من المخلوقاتِ، والمخلوقاتُ موجودةٌ بالمشاهدةِ. ثم العجزُ نقصٌ، والنقصُ مستحيلٌ على الله لأن من شرطِ الإلهِ الكمالُ.

وأما البرهانُ النقليُّ فقد وَرَدَ ذكرُ صفةِ القدرةِ لله تعالى في القرءانِ الكريمِ في عدةِ مواضعَ كقولِهِ تعالى: }إنَّ الله هو الرَّزَّاقُ ذُو القوةِ المتين{ القوةُ هي القدرةُ، وقولِه تعالى: }وَهُوَ على كلِّ شىءٍ قديرٌ{.

ثم إن القدرةَ لا تتعلقُ إلا بما يُجَوّزُ العقلُ وجودَهُ وهو الممكناتُ العقليةُ ويقال بعبارةٍ أخرى الجائزاتُ العقليةُ، فلا تتعلقُ القدرةُ بالواجِبِ العقليّ ولا بالمستحيلِ العقليّ أي ما لا يقبلُ الوجودَ، لذلك يمتنعُ أن يقال هل الله قادرٌ على أن يخلقَ مثلَهُ أو على أن يُعدمَ نفسَهُ، ومعَ ذلك لا يقالُ إنه عاجزٌ عن ذلك.

--------------------------------------------------------------------------------

صفات الله :الصفةُ التاسعةُ: الإرادة

الإرادةُ صفةٌ قديمةٌ قائمةٌ بذاتِ الله أي ثابتةٌ لذاتِهِ يخصصُ بها الممكن العقليَّ بصفةٍ دونَ صفة، لأنَّ الممكناتِ العقليةَ كانت معدومةً ثم دخلت في الوجودِ بتخصيصِ الله تعالى لوجودِها إذ كانَ في العقلِ جائزًا ألا توجدَ فوجودها بتخصيصِ الله تعالى، فلولا تخصيصُ الله تعالى لَما وجِدَ من الممكناتِ العقليةِ شىءٌ.

فيعلم من ذلكَ أن الله تعالى خصص كل شىءٍ دخلَ في الوجودِ بوجودِهِ بدل أن يبقى في العدمِ وبالصفةِ التي هو عليها دونَ غيرِها، فتخصصُ الإنسانِ بصورتِهِ وشكلِهِ الذي هو قائمٌ حاصلٌ بتخصيصِ الله تعالى لأنه كان في العقلِ جائزًا أن يكونَ الإنسانُ على غير هذه الصفةِ وعلى غيرِ هذا الشكلِ، ثم تخصصُ الإنسانِ بوجودِهِ في الوقتِ الذي وجِدَ فيهِ فهو من الله تعالى لأنه لو شاء لجعلَ الإنسانَ أولَ العالم لكنهُ لم يجعله أول العالم بل جعلَهُ ءاخر العالم، فالفردُ الواحدُ منَّا يعلمُ أنه ما أوجَدَ نفسَهُ على هذا الشكلِ ولا هو أوجدَ نفسَهُ في هذا الزمنِ الذي وُجِدَ فيهِ فوجبَ أن يكونَ ذلك بتخصيص مخصصٍ وهو الموجودُ الأزليُّ المسمى الله.

وأما البرهانُ النقليُّ على وجوبِ الإرادةِ لله فكثيرٌ من ذلك قولُه تعالى: }فَعَّالٌ لما يُرِيدُ{ أي أنه تبارك وتعالى يُوجدُ ويفعلُ المكوناتِ بإرادتهِ الأزليةِ.

--------------------------------------------------------------------------------

صفات الله :الصفة العاشرةُ: العلم

العلم صفةٌ أزليةٌ ثابتةٌ لله تعالى ولا يقالُ في الله تعالى لأن التعبير بفي يوهمُ الظرفيةَ، أي أنَّ ذاتَ الله تعالى ظرفٌ لعلمِهِ وهذا مستحيلٌ. فالله تعالى ليس جوهرًا يحلُّ به العرَضُ، نحنُ عملنا عرضٌ يحلُّ بأجسامنا ويستحيلُ ذلك على الله تعالى فلا يجوزُ لأحدٍ أن يعبر بهذِهِ العبارة فإن ذلكَ زللٌ يؤدي إلى الهلاكِ. وهذا الفنُّ أولى العلومِ بالاحتياطِ في العباراتِ لأنه أشرفُ العلومِ لأنه يتعلقُ بأصلِ الدينِ، ولذلكَ سماهُ أبو حنيفةَ "الفقه الأكبرَ" وهو يعرفُ بعلمِ التوحيدِ وعلم الكلامِ، وهذا الذي يسميهِ أهلُ السنةِ علم الكلامِ هو الكلام الممدوحُ، وأما الكلامُ المذمومُ فهو كلامُ أهلِ الأهواءِ أي أهلِ البدع الاعتقاديةِ كالمعتزلة فهو الذي ذمَّه السلفُ، قال الإمامُ الشافعيُّ رضي الله عنه: "لأنْ يلقى الله العبدُ بكلِ ذنبٍ ما عدا الشركَ أهونُ من أن يلقاه بكلامِ أهل الأهواءِ". فالفرقُ بينَ هذا وهذا أن علمَ الكلامِ الذي هو لأهلِ السنةِ الذي فيهِ ألَّفوا تآليفهم أنه تقريرُ عقيدةِ السلفِ بالبراهينِ النقليةِ والعقليةِ مقرونًا بردّ شُبهِ الملاحدةِ المبتدعةِ وتشكيكاتِهم. ولأهل الحقِ عناية عظيمة به فقد كان أبو حنيفة يسافر من بغداد الى البصرةِ لإبطالِ شبهِهم وتمويهاتهم فقد تردد لذلك أكثَر من عشرينَ مرةً. وبينَ بغدادَ والبصرة مسافةٌ طويلةٌ، فكانَ يقطعهم بالمناظرة بكشف فسادِ شبههم وتمويهاتِهم، وهذا لا يعيبه إلا جاهلٌ بالحقيقةِ من المشبهةِ ونحوهم فإن المشبهةَ التي تحملُ الآياتِ المتشابهة والأحاديثَ المتشابهة الواردةَ في الصفاتِ على ظواهرها أعداءُ هذا العلمِ، وفي هؤلاءِ قال القائلُ وقد صدقَ فيما قالَ:

عابَ الكلامَ أناسٌ لا عقولَ لهم وما عليه إذا عابُوهُ من ضَرَرِ

ما ضرَّ شمسَ الضُّحى في الأفقِ طالعةً أن ليسَ يبصرها من ليسَ ذا بصَرِ

أما ما يُروى أنَّ الشافعيَّ قال: "لأن يلقى الله العبدُ بكلّ ذنبٍ ما عدا الشركِ خيرٌ له من أن يلقاهُ بعلمِ الكلام" فلم يثبت عنه.

قالَ أهلُ الحقّ في إثباتِ صفةِ العلمِ لله تعالى استدلالا أنَّه تعالى لو لم يكن عالمًا لكانَ جاهلًا والجهلُ نقصٌ والله منزهٌ عنِ النقصِ، وأيضًا لو كانَ جاهلًا بشىءٍ لَم يوجد هذا العالمُ فوجودُ هذا العالمِ مشاهَدٌ ثابتٌ للعيانِ، فالجهلُ في حقّ الله تعالى يؤدي إلى عدمِ وجودِ العالمِ وذلك محالٌ، وما أدى إلى المحالِ محالٌ.

وأما من حيثُ النقلُ فالدلائل كثيرة كقولِهِ تعالى: }وَهُوَ بِكُلِّ شَىءٍ عَليم{، وقولِهِ: }ألا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيفُ الخبير{ ففي الآيةِ دلالَةٌ على أنه لو لم يكن عالمًا لما خلق هذا الخلقَ.

--------------------------------------------------------------------------------

صفات الله : الصفةُ الحاديةَ عشرةَ: السمعُ

وهو صفةٌ قديمةٌ قائمةٌ بذاتِ الله أي ثابتةٌ له تتعلقُ بالمسموعاتِ، وقال بعضُ المتأخرينَ: تتعلقُ بكلِ موجودٍ من الأصواتِ وغيرها، ولا يجوزُ أن يكونَ سمعُهُ تعالى حادثًا كسمع خلقِهِ، ولا يجوزُ أن يكونَ بآلةٍ كسمعنا فهو يسمعُ بلا أُذُنٍ ولا صِماخٍ، وقد زاغ بعضُ من لم يتعلَّم علمَ التنزيهِ ممن اقتصر على حفظِ القرءانِ من دونِ تلقٍّ لِعلم الدينِ تفهُّمًا من أفواهِ أهلِ العلمِ الذين تلقوا ممن قبلَهُم فقالَ: إنَّ الله له ءاذانٌ، فقيلَ له: كيفَ ذلكَ؟ قال: أليسَ قال الرسول "لله أشدُ ءاذانًا" فقيل له: أنت حرَّفتَ الحديثَ فالواردُ "أَذَنًا" وليس ءاذانًا، هو ظنَّ بنفسِه أنهُ عالمٌ فتجرأ على تحريفِ هذا الحديثِ ظنًّا منه أنه الصوابُ، والأَذَنُ في اللغةِ الاستماعُ، وقول هذا الرجل من أفحشِ الكذبِ على الله لم يقل بذلكَ أحدٌ من المشبهةِ. فسمعُ الله تعالى أزليٌّ ومسموعاتُهُ التي هي من قبيلِ الصوتِ حادثةٌ فهو تعالى يسمعُ هذه الأصواتَ الحادثةَ بسمعِهِ الأزليّ الأبديّ أي الذي ليس لوجودِهِ ابتداءٌ ولا انتهاءٌ بل هوَ باقٍ دائمٌ كسائرِ الصفاتِ، وهذا كما قالوا إن قدرة الله متعلقةٌ بالحادثاتِ أي الممكناتِ العقليةِ والقدرةُ أزليةٌ بخلافِ المقدوراتِ فإنها حادثةٌ، ويقال على مذهبِ الماتريديةِ إنه مكوّنُ الخلقِ بتكوينِهِ الأزليّ ومكوناتُهُ حادثةٌ.

ودليلُ وجوبِ السمعِ له عقلًا أنه لو لم يكن متصفًا بالسمعِ لكان متصفًا بالصممِ وهو نقصٌ على الله، والنقصُ عليه محالٌ.

وأما دلائلُهُ النقليةُ فكثيرةٌ منها قولُه تعالى: }وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ{، وقولُه تعالى: }قد سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجادلُكَ فِي زوجِها{.

--------------------------------------------------------------------------------

صفات الله :الصفةُ الثانيةَ عشرةَ: البصرُ

معناهُ الرؤيةُ، والبصرُ صفةٌ أزليةٌ أبديةٌ متعلقٌ بالمبصراتِ فهو تباركَ وتعالى يرى ذاته الأزليَّ ويرى الحادثاتِ برؤيتِهِ الأزليةِ، وليسَ بصرهُ كبصرِ خلقِهِ لأن بصرَ خلقه بآلة يكون بالعين.

والدليل على ثبوتِ البصر لهُ من حيث العقلُ أنه تبارك وتعالى لو انتفى عنهُ البصرُ لاتصفَ بضدِهِ وهو العَمَى أي عدمُ الرؤية وذلك نقصٌ والنقصُ محالٌ على الله.

وأما برهانُ البصرِ النقليُّ فالآياتُ والأخبارُ الصحيحةُ الكثيرةُ كقولِ الله تعالى: }وَهُوَ السَّمِيعُ

البصير{، وقولِهِ صلى الله عليه وسلم في تَعدادِ أسماءِ الله الحسنى: "السميعُ البصيرُ" وهو في حديثٍ أخرجهُ الترمذيُّ وحسَّنهُ.

--------------------------------------------------------------------------------

صفات الله :الصفةُ الثالثةَ عشرةَ: الكلامُ

يجبُ لله تعالى الكلامُ وهو صفةٌ أزليةٌ أبديةٌ لا يشبهُ كلامَ المخلوقينَ ويُعبرُ عنهُ بالقرءانِ وغيرِهِ من الكتبِ المنزلةِ، وكلامُ المخلوقينَ حادثٌ، فكلامُ الإنسانِ صوتٌ يعتمدُ على مخارجَ ومقاطعَ ومنهُ ما يحصلُ بتصادمِ جسمينِ كصوتِ الحديدِ إذا جُرَّ على الصفا([7]). وليست هذه الكتبُ المنزلةُ عينَ الكلامِ الذاتي بل هي عباراتٌ عنهُ، والدليلُ على ذلكَ من حيثُ العقلُ أنه لو لم يكن متكلمًا لكانَ أبكم، والبَكمُ نقصٌ والنقصُ مستحيلٌ على الله.

وأما دليلُه النقليُّ النصوصُ القرءانيةُ والحديثيةُ من ذلكَ قولُه تعالى: }وَكَلَّمَ الله موسى تكليمًا{ أي أسمعَهُ كلامَهُ الأزليَّ الأبديَّ ففهمَ منه موسى ما فهمَ، فتكليمُ الله تعالى أزليٌّ وموسى وسماعهُ لكلامِ الله حادثٌ. فالقرءانُ يرادُ به الكلامُ الذي هو معنى، أي صفةٌ قائمة بذاتِ الله، ويطلق على اللفظِ المنزلِ على سيدنا محمدٍ، قال الله تعالى: }نزل به الرُّوحُ الأمين على قلبك لتكون من المنذرين{، وليسَ الكلام الذي هو معنى قائم بالله المسمى الكلامَ النفسيَّ لكونِهِ قائمًا بذات الله أي بنفسِهِ أي ذاتِهِ. فالقرءانُ بمعنى اللفظِ المنزلِ هو الذي يكتبُ بأشكالِ الحروفِ ويسمَعُ بالآذانِ ويحفظُ في الأذهانِ بالألفاظِ المتخيَّلةِ ويقرأ باللفظِ، أما الكلامُ الذاتيُّ فلا يحلُّ في المصاحف لكنه يُطلقُ على كلا الأمرينِ أنه كلام الله فهو باعتبارِ إطلاقِهِ على الكلامِ النفسيِ حقيقةٌ عقليةٌ شرعيةٌ، أما باعتبارِ إطلاقِهِ على اللفظِ المنزل فهو حقيقةٌ شرعيةٌ لأن اللفظَ المنزلَ ليسَ عينَ الكلامِ الذاتيِ الأزلي الأبديِ، وتقريبُ ذلكَ للفهمِ أنه يصحُّ أن يقالَ تلفظتُ الله أي تلفظتُ بلفظٍ يدُلُّ على ذاتِ الله المقدسِ، ويقال كتبتُ الله أي أشكالَ الحروفِ الدالةِ على الذاتِ القديمِ، ويقال للفظِ الجلالةِ المكتوبِ على لوحٍ ونحوِهِ هذا الله، ويقالُ قرأ فلانٌ قراءة حسنةً صحيحةً ويقالُ قرأ فلانٌ قراءةً غيرَ صحيحةٍ، فلا يصحُّ أن يكونَ قولُ القائلِ تلفظتُ الله وكتبتُ الله أن يكونَ على الحقيقةِ العقليةِ لأن الله تعالى لا يَحلُّ بألسِنتنا وكذلكَ كلامهُ الذي هو ذاتيٌّ لا يَحُلُّ بألسنتنا، إنما العبارةُ هي التي تحلُّ بألسنتنا، فإن قيلَ إذا لم يكن اللفظُ المنزلُ عينَ كلامِ الله الذاتيّ فكيفَ كانَ نُزُولُهُ على سيدِنا محمدٍ؟

فالجوابُ: ما قالَهُ بعضُ العلماء إن جبريل وجَدهُ مكتوبًا في اللوحِ المحفوظِ فأنزلَهُ بأمرِ الله له على سيدنا محمدٍ قراءةً عليهِ لا مكتوبًا في صحفٍ ويدلُ لذلكَ قولُهُ تعالى: (إنه لقولُ رسول كريم) أي مقروء جبريل، فلو كان هذا اللفظُ المنزلُ عين كلامِ الله الذاتي لم يقل الله تعالى: (إنه لقولُ رسول كريم) أي جبريل لأن جبريل هو المراد بالرسولِ الكريمِ. أما المشبهةُ فتقول الله يتكلم بالحروفِ كما نحن نتكلم بالباء ثم السين ثم ما يلي ذلك من الحروف في بسم الله الرحمن الرحيم وغيرِ ذلك من ألفاظ القرءان، وفيما قالوه تشبيهٌ لله بخلقهِ لأنه لو كان يتكلمُ بحروف تخرج من ذات الله تعالى كما تخرج من ألسنتنا لكانَ مثلنا ولا يجوزُ أن يكونَ مثلنا لأنه نفى عن نفسِه مشابهةَ غيره لَهُ بقولِه: (ليس كمثله شىء)، فرضي الله عن أئمةِ أهلِ السنة حيثُ بيَّنوا الصوابَ من الاعتقاد الذي لولا بيانُهُم لخفيَ على كثيرٍ من الخلقِ وَلَوَقَعُوا في تجسيم الله تعالى.

واستدلالنا بقولِ الله تعالى: (إنه لقولُ رسولٍ كريم ذي قوةٍ عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين) من أوضح الدلائل على صحةِ ما يقولُهُ أهلُ السنة المنزهونَ لخالقهم عن شبه المخلوقينَ، وإلى هذا ذهبَ الفريقانِ من أهلِ السنةِ الماتريدية والأشعرية، فقولُ من قال من أهلِ السنةِ القرءان كلامُ الله تعالى بالحقيقةِ ينزل على التبصيرِ الذي قرَّبوه.

ثم الواجبُ معرفتهُ وجوبًا عينيًّا على كلّ مكلفٍ من صفاتِ الله هي هذه الثلاثَ عشرة، وأما التكوينُ وهو التخليقُ للمخلوقاتِ والمقدوراتِ ففهِمَهُ بعضُ أهلِ السنةِ على أنه صفةٌ لله أزليةٌ قائمةٌ بذاتِهِ تعالى فعندهُم تكوينُ الله أزليٌّ والمكوناتُ حادثةٌ مخلوقةٌ. والفريقُ الآخرُ أكثرُ الاشاعرة لا يرونَ التكوينَ صفةً لله تعالى أزليةً، إنما يرونَ التكوين أثرَ القدرة الأزلية فعندَهُم لا حاجةَ إلى عدّ التكوينِ صفةً أزليةً، فعلى حسبِ مذهبِ الماتريديةِ تكونُ الصفاتُ الواجبُ معرفتُها على كلّ مكلفٍ أربعَ عشرةَ صفةً، وبعضُ الماتريديةِ وهو صاحب كتاب بدء الأمالي قال في تقريرِ مذهبِهِم في صفاتِ الذاتِ:

صفاتُ الذاتِ والأفعالِ طُرًّا([8]) قديماتٌ مصوناتُ الزوالِ

الماتريديةُ عندَهُم هكذا يقررونَ أن صفات الذاتِ وهي ثلاثَ عشرةَ، وصفاتُ الأفعالِ أي التخليق الذي هو التكوين والإسعادُ والإشقاءُ والإماتَةُ والإحياءُ قديماتٌ أي أزلياتٌ، وقوله: "مصونات الزوالِ" معناه لا تَنعدمُ ليست شيئًا يوجدُ ثم ينقطعُ.

وأما بعضُ الحنابلةِ قالوا كلامُ الله بصوتٍ لكنَّ متقدميهِم يعنونَ بذلكَ صوتا أزليًّا أبديًّا ليس كأصواتِ المخلوقينَ فإن الذي يعتقدُ أن كلامَ الله صوتٌ حادثٌ فهو شَبَّهَهُ بخلقه وخالف قولَ الله تعالى: (ليس كمثله شىء).

ثم إن الناسَ افترقوا في مسألةِ الصفاتِ فِرقًا، فرقة أثبتتِ الصفاتِ معَ التنزيهِ عن مشابهةِ الخلقِ وهم أهلُ السنة والجماعة، أثبتوا لله ما أثبتَ لنفسِهِ مع تنزيهِهِ تعالى عن أن تكونَ صفاتُهُ من لوازِمِ الجسميةِ كالجلوسِ والانتقالِ والتحيزِ في جهة من الجهاتِ والتغيرِ والتطورِ وسائرِ أماراتِ الحدوث، وفرقة عطلتِ الصفاتِ وهم المعتزلةُ وهمُ القدريةُ أنكروا أن الله متصفٌ بصفات تقومُ بالذات فسمُّوا لذلكَ معطلةً لأنهم عطلوا الصفات أي نفوها، وفرقة جعلوا صفاتِ الله من لوازمِ الجسميةِ أثبتوا للذاتِ المقدسِ الحركةَ والسكونَ والتنقلَ وغيرَ ذلك من أماراتِ الحدوثِ كقولِهِم إن كلامَ الله أصواتٌ وحروفٌ توجدُ ثم تنقضي ثم تعودُ ثم تنقضِي ثم تعودُ ثم تنقضِي وهؤلاءِ يسمَّونَ مشبهةً ومجسمةً، ومن هؤلاءِ قسمٌ يصرحونَ بتسميةِ الله جسما ثم يقولونَ نحن لا نعني بقولنا إنه جسم أَنه جِرمٌ إنما نعني أنه موجودٌ قائمٌ، وقسمٌ يتحاشونَ أن يطلقوا عليه لفظَ الجسم مع اعتقادِ معناه، ومن هؤلاء الكراميَّة وهم مشبهةٌ مجسمةٌ ينتسبونَ إلى رجلٍ يقال له محمد بن كرام ويقالُ لهؤلاءِ حشوية، وأهلُ السنةِ الوسطُ بين ذينِكَ الفريقينِ وهم لقّبوا الأشعريةَ والماتريديةَ لأنهم اتَّبَعُوا إمامي الهدى أبا الحسن الأشعري وأبا منصورٍ الماتريديَّ ويتميزُ هؤلاءِ عن المعطلةِ والمشبهةِ لكونِهِم يثبتونَ لله تعالى الصفاتِ التي مرَّ ذكرُها: العلمُ والقدرةُ والإرادةُ والسمعُ والبصرُ والكلامُ والحياةُ والمخالفةُ للحوادثِ والقيامُ بالنفسِ والوجودُ والوحدانيةُ والقدم والبقاء مع تنزيهِ الله تعالى عن صفاتِ الحدوثِ بقولِهِم في هذه الصفاتِ إنها أزليةٌ أبديةٌ، ولأنهم يؤولونَ ءاياتِ الصفاتِ وأحاديث الصفاتِ من المتشابِه بتركِ حملِها على الظواهر، فمنهم من يؤولُ تأويلا إجماليًّا ومنهم مَن يؤولُ تأويلا تفصيليًّا ويَرونَ كلا الأمرينِ حقًّا وصوابًا. ومثالُ ذلكَ أنهم يحملونَ استواءَ الله على العرشِ المذكورَ في عدةِ ءاياتٍ على معنى يليقُ بهِ تعالى لا على معنَى الجلوسِ والاستقرارِ أو المحاذاةِ أو نحوِ ذلكَ من معاني الاستواءِ في اللغةِ العربيةِ مما هو من استواء المخلوق، ثم منهم من يكتفِي بإمرارِها كما جاءت من غير تعيينِ معنى لائق بالله تعالى كالاستيلاءِ والقهرِ، ومنهم من يعينُ معنى لا يلزمُ منهُ علاماتُ الحدوثِ ولوازمُ الجسميةِ فالفريقُ الأولُ منهُم أَوَّلوا تأويلا إجماليًّا والفريقُ الآخر أَوَّلوا تأويلا تفصيليًّا.

وزاغَ أهل التشبيه عن الحقّ وقالوا إن التأويلَ تعطيل وهو افتراءٌ على أهلِ السنّة، وهؤلاءِ يذمون أهلَ الحقّ لتركهم حملَ تلكَ الآيات والأحاديث المتشابهة كآيةِ الاستواء المذكورةِ على ظواهرِها، فيقول أحدهم للسني الذي لا يحمل تلك الآيات والأحاديث على ظواهرها هذا مؤوّل على وجهِ التعيير وهم معَ ذلك يؤولونَ بعضَ هذه الآياتِ والأحاديثِ، فهم في الحقيقةِ مناقضونَ لأنفسِهِم وإن لم يشعرُوا بذلكَ لأنهم لا يحملونَ الآياتِ التي ظواهرها أن الله في الجهةِ المقابلةِ لجهةِ العلوّ كالأرضِ فإذا جاءوا إلى هذِه الآياتِ كقولِهِ تعالى في حقّ ابراهيمَ: }وقال إني ذاهبٌ إلى ربي سيهدين{ لا يحملونَ هذه الآيةَ على أن الله تعالى أرادَ بذلكَ أنه كانَ في أرضِ الشامِ التي هاجرَ إليها إبراهيمُ، كذلك إذا جاءوا إلى قولِهِ تعالى: }وهو معكم أين ما كنتم{ لا يحملونَ هذهِ الآيةَ على ظاهرها لأنَّ ظاهرها أن الله مخَالطٌ عبادَهُ في أماكِنهم في الأرضِ أينما كانوا وأنه متنقلٌ معهم. ثمَّ إذا قيلَ لَهُم كيفَ تحملونَ بعضَ هذِهِ الآياتِ على ظواهرِها كآيةِ الاستواءِ على العرشِ ولا تحملونَ الآياتِ الأخرى كآيةِ }وقال إني ذاهبٌ إلى ربي سيهدين{ وءاية }ونحن أقرب إليه من حبل الوريد{ وما أشبهَ ذلك لا تحملونَها على الظواهرِ أليس هذا تَحَكُّمًا، قالوا الآياتُ التي ظواهرُها أن الله تعالى في جهةِ العلوّ كالعرشِ والسماءِ إذا حملناها على ظواهرِها أثبتنا لله الكمالَ وأما الآياتُ التي ظواهرُها أنه تعالى في جهةِ تحت لا نحملُها على ظواهرها لأن جهةَ تحتٍ خلافُ الكمالِ وهي نقيصةٌ في حقّ الله تعالى.

وقالَ أهلُ الحقّ: ليس الشأنُ في عُلوّ الجهةِ بل الشأنُ في علوّ القدرِ، والفوقية في لغةِ العربِ تأتي على معنيينِ فوقية المكانِ والجهةِ وفوقية القدرِ قال الله تعالى إخبارًا عن فرعون: }وإنا فوقهم قاهرون{ أي نحنُ فوقَهُم بالقوةِ والسيطرةِ لأنه لا يصحُّ أن يقالَ إن فرعونَ أرادَ بهذا أنه فوقَ رقابِ بني إسرائيلَ إلى جهةِ العلوّ إنما أرادَ أنهُم مقهورونَ لَهُ مغلوبونَ.

والحاصلُ أن هذه الطائفةَ كأنها لا تدري ما تقولُ، أما أهلُ الحقّ الذين لا يحملونَ تلك الآياتِ على الظواهرِ ما أوهمَ منها تحيزَ الله في جهةِ العلوّ وما أوهَمَ منها تحيزَهُ في جهةِ تحت فهم جانبوا التحكمَ أي الدعوى بلا دليلٍ، وأما الفئة التي تحملُ بعضَ تلك الآياتِ والأحاديثِ على ظواهرِها وتترك حملَ بعضٍ على ظاهرها فقد تحكمت ولزمَها التشبيهُ فهم مشبهةٌ في الحقيقةِ وإن كانوا لا يرضونَ هذا الاسمَ لهُم. ومن عادتِهِم أنهم يموهونَ على الناسِ بقولِهِم استوى على العرشِ بلا كيف أو بقولِهم على ما يليق بهِ وهم يعتقدونَ في الله الكيفَ الذي نفاه السلَف فليحذرِ العَاقل تمويهَهُم، تعالى الله عما يقولون.

--------------------------------------------------------------------------------

صفات الله : صِفَاتُ الله كُلُّها كَمَالٌ

صِفَاتُ الله أزَلِيَةٌ أَبدِيَةٌ، لأَنَّ الذَّاتَ أزَليٌّ فَلا تَحْصُلُ لَهُ صِفَةٌ لَم تَكُنْ في الأَزَلِ، أمَّا صِفَاتُ الخَلْقِ فَهِيَ حَادِثَةٌ تَقْبَلُ التَّطَوُّرَ مِنْ كَمَالٍ إلى أكْمَلَ فَلا يتجدَّدُ عَلى عِلْمِ الله تَعَالَى شَىءٌ. والله تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ شَىءٍ بِعلْمِه الأَزَليّ وقُدْرَتِه الأَزَلِيَّةِ ومَشِيْئَتِه الأَزَلِيَّةِ، فَالمَاضِي والحَاضِرُ والمُسْتَقْبَلُ بِالنّسْبَةِ لله أَحَاطَ بِه بِعِلْمِهِ الأَزَلِيّ. ولما ثَبَتَت الأزليَّةُ لذات الله وَجَبَ أن تكون صفاتُهُ كلُّها أزليَّةً أبديَّةً لا تَقبَلُ التَّغيُّرُ والتَّطوُّرُ لأن التّغيُّرَ والتَّطوُّرَ من حال إلى حال علامةُ الحدوث، فالإنسان يقبل الزّيادةَ والنُّقصانَ والتغيُّرَ من الكمال إلى النَّقصِ والعكس أما الله تعالى لا يزدَادُ ولا ينقصُ، فصفاتُ الله لا تقبلُ التّطوُّرَ من كمالٍ إلى أكملَ وعلمُ الله لا يزدادُ ولا ينقصُ بل علمُهُ كاملٌ كما سائر صفاته يعلمُ به كلَّ شَىءٍ، فلا يتجدّدُ له علمٌ جديدٌ بل هو عالمٌ في الأزلِ بكلّ شىءٍ فالتّغيُّرُ يحصُلُ في المعلومِ الحادِثِ لا في علمِ الله الأزليّ، فالله يعلمُ ما كانَ في الماضي وما يكون في الوقتِ الحاضرِ وما سيكون في المستقبلِ حتى الأشياء التي تتجدَّدُ في الآخرةِ الله عَلِمَ بها في الأزل، حتى أنفاسَ أهل الجنةِ وأهل النار التي تتجدَّدُ بلا انقطاعٍ الله تعالى يعلمُ بتفصيلها.

أما قولُه تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه) [سورة الأعراف] معناهُ أن الله تعالى له الأسماءُ التي تدلُّ على الكمالِ، فالله لا يُوصَفُ إلا بصفةِ كمالٍ فما كانَ من الأسماءِ لا يدلُّ على الكمالِ لا يجوزُ أن يكونَ اسمه كما يُسمّيه بعضُ النّاس "روحًا"، وبعضُهم سمّاهُ "ءاه"، فهذا لا يجوزُ لأن كلمةٌ ءاه وَضَعَهَا العربُ لِتَدُلَّ على الشّكايةِ والتّوجُّعِ وقد جاءَ في الحديثِ الذي رواه الترمذي أن رسول الله قال: "إذا تثاءبَ أحدُكم فَليَضَع يدهُ على فِيْهِ، وإذا قالَ ءاه ءاه فإنَّ الشّيطانَ يضحَكُ من جوفِهِ" أي يدخل إلى فمِهِ ويسخرُ منه.

ومن الدّليلِ على أن ءاه ليس من أسماءِ الله أن الفقهاءَ قالوا إن من قالَ ءاه في الصّلاةِ عامدًا بطلَتْ صلاتُهُ، ومعلومٌ أن ذِكرَ الله لا يبطلُ الصلاةَ، فلو كانَ ءاه من أسماءِ الله لما أبطَلَ الصلاةَ.

وأسماءُ الله الحسنى يُطلَقُ عليها صفات الله ويُطلقُ عليها أسماء الله إلا لفظ الجلالةِ لا يطلقُ عليه الصّفة، ثم إن أسماء الله تعالى قسمانِ قسم لا يُسمَّى به غيرُهُ وقسمٌ يُسمَّى به غيرُه، الله والرَّحمنُ والقدُّوسُ والخالقُ والرَّزَّاقُ ومالكُ الملكِ وذو الجلالِ والإكرامِ والمحيي المميت لا يُسمَّى به إلا الله، أما أكثرُ الأسماءِ فيُسمَّى به غيرُ الله أيضًا، فيجوزُ أن يسمّيَ الشَّخصُ ابنَهُ رحيمًا والمَلِك كذلك والسَّلام كذلك.

تم إملاءٍ في غرة رجب لعام ألف وأربعمائة وعشرة للهجرة في مدينة خير الخلق محمد صلى الله عليه وسلم والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على خير خلقه.

ملخص لهذا المقال:

صفات الله ثابتة بلا كيف

أهل السنة والجماعة يثبتون صفات الله بلا تشبيه

صفات الله ثابتة بلا كيف. الله لا يشبه المخلوقات. الله متصف بصفات كمال.

الله متصف بصفة الوجود، الله موجود بلا مكان.

الوحدانية، الله واحد. القدم، الله أزلي لا بداية له ولا نهاية.

والبقاء، الله لا نهاية له. وقيامه بنفسه، لا يحتاج لغيره.

والقدرة، قادر على كل شىء.

الله متصف بصفة الإرادة، كل شىء بمشيئة الله.

والعلم، علم الله أزلي. والسمع والبصر، يسمع كل المسموعات،ويرى كل المرئيات بغير عين أو اذن او جارحة.

والحياة، حياة الله ليست بروحٍ أو لحم أو دم.

الكلام، كلام الله ليس بحرف أو صوت أو لغة.

صفات الله كلها كمال. ليس كمثله شىء.

عبادة الله حق علينا

.

عبادة الله حق علينا

الحمدُ لله الواحدِ القهّار العزيزِ الغفّار مكوّرِ اللّيل على النّهار تذكرةً لأولي القلوبِ والأبصار وتبصرةً لذَوي الألبابِ و الاعتبار الذي أيقظَ من خلقِه من اصطفاهُ فزهّدَهُم في هذِه الدار وشغلهُم بمراقبتِه و إدامةِ الافتِكار وملازمةِ الاتّعاظِ و الادِّكار ووفّقهُم للدؤوبِ في طاعتِه والتّأهّبِ لدارِ القرار والحذَرِ مما يُسخِطُه ويوجبُ دارَ البوار و المحافظةِ على ذلك مع تغايُرِ الأحوالِ والأطوار أحمدُه أبلغَ حمدٍ وأزكاه وأشملَهُ وأنماه وأشهدُ أن لا إله إلا الله البرُّ الكريم الرّؤوفُ الرّحيم وأشهدُ أنّ محمّدا عبدُهُ ورسولُه وحبيبه وخليلُه الهادي إلى صراطٍ مستقيم والدّاعي إلى دينٍ قويم صلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى سائرِ النبييّنَ و ءال كلٍّ وسائرِ الصالحين.

أما بعد،

فقد قال اللهُ تبارك وتعالى ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُون ﴾ وهذا تصريحٌ بأنهم خلقوا للعبادة فحقَّ عليهم الاعتناءُ بما خُلقوا له والإعراضُ عن حظوظِ الدنيا بالزَّهادة فإنها دارُ نفاذٍ لا محلُ إخلاد ومركَبُ عبورٍ لا منزلُ حُبور ومشرَعُ انفصامٍ لا مَوطنُ دوام فلهذا كان الأَيقاظُ من أهلِها هم العبّاد وأعقلُ النّاس فيها هم الزُّهاد. قال الله تبارك و تعالى: ﴿ إنما مثلُ الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناهُ من السّماء فاختلطَ بهِ نباتُ الأرض ممّا يأكلُ النّاسُ و الأنعام حتّى إذا أخذتِ الأرضُ زُخرُفَها وازيّنَت وظنّ أهلُها أنهم قادرون عليها أتاها أمرُنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيداً كأن لم تَغنَ بالأمس كذلك نفصِّلُ الآيات لقومٍ يتفكرون ﴾ والآياتُ في هذا المعنى كثيرة ولقد أحسنَ القائل " إنّ لله عبادًا فُطَنا طلّقوا الدنيا وخافوا الفِتَنا، نظروا فيها فلمّا علموا أنها ليست لحيٍّ وطنا، جعلوها لُجّةً و اتخذوا صالحَ الاعمالِ فيها سُفُنا " فاذا كان حالُها ما وصفتُه وحالُنا وما خُلقنا له ما قدّمتُه فحقَّ على المكلفِ أن يذهبَ بنفسِه مذهبَ الأخيار ويسلُكَ مسلكَ أولي النُهى والأبصار ويتأهبَ لما أشرتُ إليه ويهتمَّ بما نبَّهتُ عليه، وأصوَبُ طريق لهُ في ذلك وأرشدُ ما يسلُكُه من المسالك التأدُّبُ بما صحَّ عن نبينا صلى الله عليه وسلم وهو سيّدُ الأولينَ والآخرين وأكرمُ السابقينَ واللاحقين صلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى سائرِ النبيين وقد قال الله تعالى : ﴿ وتعاوَنوا على البِرِّ والتَّقوَى ﴾. وصحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"والله في عونِ العبد ما كان العبدُ في عونِ أخيه "و أنّه قال:"من دلَّ على خيرٍ فلهُ مثلُ أجرِ فاعلِه"و أنّهُ قال :"من دعا إلى هدىً كان لهُ منَ الأجرِ مثلُ أجورِ من تبعَه لا ينقُصُ ذلك من أجورِهم شيئا" وأنّه قال لعليّ رضي الله عنه :" فواللهِ لأن يهديَ الله بك رجلاً واحدا خيرٌ لك من حُمرِ النَعَم" فعليكم أيها الأحبّةُ بحضورِ مجالسِ العلم والاشتغالِ بذلك وتعليم ِالناسِ الخير فإنَّ ذلك مما يحبُّه الله تعالى و ممّا أمرَ به رسولُه صلى الله عليه وسلّم، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

اعتقاد الأشعري هو اعتقاد أهل السنة والجماعة

.

اعتقاد الأشعري هو اعتقاد أهل السنة والجماعة

قال السبكي في الطبقات (١): "واعلم أن أبا الحسن الأشعري لم يبدع رأيا ولم يُنشِ مذهبا وإنما هو مقرر لمذاهب السلف، مناضل عما كانت عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالانتساب إليه إنما هو باعتبار أنه عقد على طريق السلف نطاقا وتمسك به، وأقام الحجج والبراهين عليه فصار المقتدي به في ذلك السالك سبيله في الدلائل يسمى أشعريا" اهـ.

ثم قال في موضعءاخر: "قال المآيرقي المالكي: ولم يكن أبو الحسن أول متكلم بلسان أهل السنة إنما جرى على سنن غيره وعلى نصرة مذهب معروف فزاد المذهب حجة وبيانا، ولم يبتدع مقالة اخترعها ولا مذهبا به، ألا ترى أن مذهب أهل المدينة نسب إلى مالك، ومن كان على مذهب أهل المدينة يقال له مالكي، ومالك إنما جرى على سنن من كان قبله وكان كثير الاتباع لهم، إلا أنه لما زاد المذهب بيانا وبسطا عزي إليه، كذلك أبو الحسن الأشعري لا فرق، ليس له في مذهب السلف أكثر من بسطه وشرحه وما ألفه في نصرته " اهـ.

ويقول الشيخ عز الدين بن عبد السلام في عقيدته: "واعتقاد الأشعري رحمه الله مشتمل على ما دلت عليه أسماء الله التسعة والتسعون ".

ويقول الشيخ قـاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب السبكي (٢) ما نصه:

"وهؤلاء الحنفية والشافعية والمالكية وفضلاء الحنابلة في العقائد يد واحدة كلهم على رأي أهل السنة والجـماعة يدينون لله تعالى بطريق شيخ السنة أبي الحسن الأشعري رحمه الله " ثم يقول بعد ذلك: "وبالجملة عقيدة الأشعري هي ما تضمنته عقيدة أبي جعفر الطحاوي التي تلقاها علماء المذاهب بالقبول ورضوها عقيدة" اهـ.

أما الشيخ محمد العربي التبان شيخ المالكية في الحرم المكي فيقول: "فحول المحدثين من بعد أبي الحسن إلى عصرنا هذا أشاعرة وكتب التاريخ والطبقات ناطقة بذلك " اهـ.

ويقول أبو الفتح الشهرستاني في كتابه الملل والنحل(٣): "الأشعرية أصحاب أبي الحسن علي بن اسماعيل الأشعري المنتسب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، وسمعت من عجيب الاتفاقات أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه كان يقرر عين ما يقرر الأشعري أبو الحسن في مذهبه " اهـ.

وقال القاضي ابن فرحون المالكي في ترجمة الإمام الأشعري (٤) ما نصه " "كان مالكيا صنف لأهل السنة التصانيف وأقام الحجج على اثبات السنن وما نفاه أهل البدع " ثم قال: "فأقام الحجج الواضحة عليها من الكتاب والسنة والدلائل الواضحة العقلية، ودفع شبه المعتزلة ومن بعدهم من الملحدة، وصنف في ذلك التصانيف المبسوطة التي نفع الله بها الأمة، وناظر المعتزلة وظهر عليهم، وكان أبو الحسن القابسي يثني عليه وله رسالة في ذكره لمن سأله عن مذهبه فيه أثنى عليه وأنصف، وأثنى عليه أبو محمد بن أبي زيد وغيره من أئمة المسلمين " اهـ.

ويقول الشيخ محمد الحوت البيروتي (٥)ما نصه: "المالكية والشافعية أشعرية وإمامهم أبو الحسن الأشعري من ذرية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، والحنفية ماتريدية وإمامهم أبو منصور الماتريدي وهما إماما أهل السنة والجماعة" اهـ.

ويقول الشيخ محمد أمين الشهير بابن عابدين الحنفي في رد المحتار على الدر المختار: "أهل السنة والجماعة وهم الأشاعرة والماتريدية " اهـ.

ويقول أبو عبد الله الطالب بن حمدون المالكي في حاشيته على ميارة (٦) عن الأشعري: "انه أول من تصدى لتحرير عقائد أهل السنة وتلخيصها ودفع الشكوك والشبه عنها وإبطال دعوى الخصوم " اهـ.

ولقد أنصف الحبيب عبد الله بن علوي الحداد حين قال: "إن الحق مع الفرقة الموسومة بالأشعرية نسبة إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري رحمه الله الذي رتب قواعد عقيدة أهل الحق وحرر أدلتها، وهي العقيدة التي أجمعت عليها الصحابة ومن بعدهم من خيار التابعين وهي عقيدة أهل الحق من أهل كل زمان ومكان، وهي عقيدة جميع أهل التصوف كما حكى ذلك أبو القاسم القشيري في أول رسالته، وهي بحمد الله عقيدتنا وعقيدة إخواننا من السادة الحسينيين المعروفين بآل أبي علوي، وعقيدة أسلافنا من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، ثم أنشد:

وكن أشعريا في اعتقادك إنه هوالمنهل الصافى عن الزيغ والكفر"ا. هـ.

أما الشيخ الفقيه عبد الله العيدروس الأكبر فذكر في كتابه الكبريت الأحمر ان عقيدتهم عقيدة أهل السنة والجماعة فقال: "اعتقادنا اعتقاد الأشعرية، ومذهبنا مذهب الشافعية على مقتضى الكتاب والسنة" اهـ، وقال أيضا في كتابه عقود الالماس (٧) ما نصه: "عقيدتي أشعرية هاشمية شرعية كعقائد الشافعية والسنية الصوفية " ا هـ.

وإجمال إعتقاد الأشعري رحمه الله تعالى الذي هو اعتقاد أهل السنة والجماعة ان الله سبحانه وتعالى واحد لا شريك له، ليس بجسم مصور، ولا جوهر محدود مقدر ، ولا يشبه شيئا ولا يشبهه شىء ﴿ليس كمثله شىء وهو السميع البصير﴾، قديم لا بداية لوجوده، دائم لا يطرأ عليه فناء، لا يعجزه شىء، ولا تحيط به الجهات ، كان قبل أن كون المكان بلا مكان، وهو الآن على ما عليه كان، لا يقال متى كـان ولا أين كان ولا كـيف، لا يتقيد بالزمان ولا يتخصص بالمكان، تعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات، وانه سبحانه منزه عن الجلوس والمماسة والاستقرار ، والتمكن والحلول والانتقال، لا تبلغه الأوهام ولا تدركـه الأفهام مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك، حي، عليم، قادر، سميع بصير، متكلم وكلامه قديم كسائر صفاته لأنه سبحانه مباين لجميع المخلوقات في الذات والصفات والأفعال. ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر.

وأنه سبحانه وتعالى خلق الخلق وأعمالهم، وقدر أرزاقهم وءاجالهم، لا دافع لما قضى ولا مانع لما أعطى، يفعل في ملكه ما يريد ﴿لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون﴾ ، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه سبحانه موصوف بكل كمال يليق به منزه عن كل نقص في حقه.

وأن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، مبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى، صادق في كل ما يبلغه عن الله تعالى.



------------------------------------------------------

(١) طبقات الشافعية (٢/ ٢٥٤).

(٢) معيد النعم ومبيد النقم (ص/ ٦٢).

(٣) الملل والنحل (١/ ٩٤).

(٤) الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب (ص/ ١٩٤)

(٥) الدرة الوضية في توحيد رب البرية (ص/ ٧٧-٧٨).

(٦) حاشية ابن حمدون على ميارة (ص/ ١٦).

(٧) عقود الالماس (٢\٩٠)

السبت، 25 سبتمبر 2010

العقيدة الطحاوية. عقيدة السلف الصالح في تنزيه الله عن الجسم و الجهة.

.

العقيدة الطحاوية. عقيدة السلف الصالح في تنزيه الله عن الجسم و الجهة.
العقيدة الطحاوية



قال العلامة حجة الإسلام أبو جعفر الوراق الطحاوي رحمه الله : هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة ، أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني ، رضوان الله عليهم أجمعين، وما يعتقدون من أصول الدين ويدينون به لرب العالمين. نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله :



إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله ولا يعجزه شيء ولا إله غيره. قديم بلا ابتداء دائم بلا انتهاء، لا يفنى ولا يبيد ولا يكون إلا ما يريد. لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأفهام ولا يشبه الأنام. خالق بلا حاجة، رازق بلا مؤنة، مميت بلا مخافة، باعث بلا مشقة.



ما زال بصفاته قديما قبل خلقه، لم يزدد بكونهم شيئا لم يكن قبلهم من صفته. وكما كان بصفاته أزليا كذلك لا يزال عليها أبديا. ليس بعد الخلق استفاد اسم "الخالق" ولا بإحداث البرية استفاد اسم "الباري" ، له معنى الربوبية ولا مربوب ومعنى الخالق ولا مخلوق ، وكما أنه "محيي الموتى" بعدما أحيا، استحق هذا الاسم قبل إحيائهم ، وكذلك استحق اسم "الخالق" قبل إنشائهم. ذلك بانه على كل شيء قدير وكل شيء إليه فقير. وكل أمر عليه يسير. لا يحتاج إلى شيء (( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير )) .



خلق الخلق بعلمه وقدر لهم أقدارا ضرب لهم آجالا، ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم، وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته. ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان وما لم يشأ لم يكن.


يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلا، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلا. وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله، وهو متعال عن الأضداد والأنداد، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ولا غالب لأمره. آمنا بذلك كله وأيقنا أن كلا من عنده.

وأن محمدا عبده المصطفى ونبيه المجتبى ورسوله المرتضى وأنه خاتم الأنبياء وإمام الأتقياء وسيد المرسلين وخبيب رب العالمين. وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى. وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى بالحق والهدى وبالنور والضياء.

وأن القرآن

كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولا وأنزله على رسوله وحيا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده سقر حيث قال :(( سأصليه سقر )) . فلما أوعد الله بسقر لمن قال: (( إن هذا إلا قول البشر )) ، علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر ولا يشبه قول البشر. ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر. فمن أبصر هذا اعتبر وعن مثل قول الكفار انزجر وعلم أنه بصفاته ليس كالبشر.

والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية كما نطق به كتاب ربنا: (( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة )) ، وتفسيره على ما اراده الله تعالى وعلمه وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كما قال ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا. فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه. ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام علم ما حظر عنه علمه ولم يقنع بالتسليم فهمه حجبه مرامه عن خالص التوحيد وصافي المعرفة وصحيح الإيمان فيتذبذب بين الكفر والإيمان والتصديق والتكذيب والإقرار والإنكار موسوسا تائها شاكا لا مؤمنا مصدقا ولا جاحدا مكذبا.

ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأولها بفهم، إذ كان تأويل الرؤية ـ وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية ـ بترك التأويل ولزوم التسليم، وعليه دين المسلمين. ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه، فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية، منعوت بنعوت الفردانية، ليس في معناه أحد من البرية . .وتعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات، .لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات .

والمعراج حق. وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء ومن ثم إلى حيث شاء الله من العلا. وأكرمه الله بما شاء وأوحى إليه ما أوحى : (( ما كذب الفؤاد ما رأى )) ، فصلى الله عليه وسلم في الأخرة والأولى. والحوض الذي أكرمه الله تعالى به حق. والشفاعة التي ادخرها له حق، كما روي في الأخبار.

والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق. وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة وعدد من يدخل النار جملة واحدة، فلا يزاد في ذلك العدد ولا ينقص منه . وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه، وكل ميسر لما خلق له. والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله والشقي من شقي بقضاء الله.

وأصل القدر سر الله في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل. والتعمق والنظر في ذلك ذريعة للخذلان وسلم للحرمان ودرج الطغيان. فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة. فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه ونهاهم عن مرامه كما قال تعالى في كتابه : (( لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون )) ، فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين. فهذه جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى، وهي درجة الراسخين في العلم، لأن العلم علمان : علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود . فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاء العلم المفقود كفر. ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود وترك طلب العلم المفقود.

ونؤمن باللوح والقلم، وبجميع ما فيه قد رقم. فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء قد كتبه الله تعالى فيه أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائنا لم يقدروا عليه. جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه.



وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقد ذالك تقديرا محكما مبرما ليس فيه ناقض ولا معقب ، ولا مزيل ولا مغير . ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه، وذالك من عقد الإيمان وأصول المعرفه والإعتراف بتوحيد الله تعالى وبربوبيته،كما قال تعالى في كتابه: (( وخلق كل شيْ فقدره تقديرا )) ، وقال تعالى : (( وكان أمر الله قدرا مقدورا )) .



فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيما ، وأحضر للنظر فيه قلبا سليما، لقد إلتمس بوهمه في فحص الغيب سرا كتيما . وعاد بما قال فيه أفاكا أثيما.



والعرش والكرسي حق، وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه.



وتقول إن الله اتخذ إبراهيم خليلا وكلم موسى تكليما، إيمانا وتصديقا وتسليما. ونؤمن بالملائكة والنبيين والكتب المنزلة على المرسلين. ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين.



ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ، ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين.



ولا نخوض في الله ، ولا نماري في دين الله ، ولا نجادل في القران ، ونشهد أنه كلام رب العالمين نزل به الروح الأمين فعلمه سيد المرسلين محمدا صلى الله عليه وسلم. وهو كلام الله تعالى لا يساويه شيء من كلام المخلوقين، ولا نقول بخلقه ولا نخالف جماعة المسلمين.



ولا نكفر أحدل من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله . ولا نقول : لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله. نرجوا للمحسنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته ولا نأمن عليهم ولا نشهد لهم بالجنة. ونستغفر لمسيئهم ونخاف عليهم ولا نقنطهم.



والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام، وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة. ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه.



والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان . وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق، والإيمان واحد وأهله في أصله سواء . والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى. والمؤمنين كلهم أولياء الرحمن وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقران.



والإيمان هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وحلوه ومره من الله تعالى. ونحن مؤمنون بذلك كله لا نفرق بين أحد من رسله، ونصدقهم كلهم على ما جاءوا به.



وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين، بعد أن لقوا الله عارفين (مؤمنين) وهم في مشيئته وحكمه إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه : (( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء )) ، وإن شاء عذبهم في النار بعدله ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته ثم يبعثهم إلى جنته، وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته الذين خابوا من هدايته ولم ينالوا من ولايته. اللهم يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به.



ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة وعلى من مات منهم. ولا ننزل أحد منهم جنة ولا نارا، ولا نشهد عليهم بكفر ولا شرك ولا بنفاق ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى.



ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من وجب عليه السيف.



ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ولا ندعوا عليهم ولا ننزع يدا من طاعتهم ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة.



ونتبع السنة والجماعة ونتجنب الشذوذ والخلاف والفرقة. ونحب أهل العدل والأمانة ونبغض أهل الجور والخيانة.



وقول الله أعلم فيما اشتبه علينا علمه.



ونرى المسح على الخفين ي السفر والحضر كما جاء في الأثر.



والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة، لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما.



ونؤمن بالكرام الكاتبين، فإن الله قد جعلهم علينا حافظين. ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين. وبعذاب القبر لمن كان أهلا له. وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضوان الله عليهم. والقبر روضة من رياض الجنة وأو حفرة من حفر النيران.



ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة والعرض والحساب وقراءة الكتاب والثواب والعقاب والصراط والميزان .



والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا ولا تبيدان، وأن الله خلق الجنة والنار قبل الخلق، وخلق لهما أهلا. فمن شاء منهم إلى الجنة فضلا منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلا منه.



والخير والشر مقدران على العباد، واىستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به فهي من مع الفعل، وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات فهي قبل الفعل وبها يتعلق الخطاب وهو كما قال الله تعالى : (( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها )) .



وأفعال العباد خلق من الله وكسب من العباد، ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم ، وهو تفسير "لا حول ولا قوة إلا بالله".



نقول لا حيلة لأحد ولا حركة لأحد ولا تحول لأحد من معصية الله إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله .



وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضاؤه وقدره. غلبت مشيئته المشيئات كلها. وغلب قضاؤه الحيل كلها، يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبدا، تقدس عن كل سوء وحين وتنزه عن كل عيب وشين (( لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون )) .



وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات، والله تعالى يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات ويملك كل شيء ولا يملكه شيء، ولا غنى عن الله طرفة عين، ومن استغنى عن الله طرفة عين فقد كفر وصار من أهل الحين .



والله يغضب ويرضى لا كأحد من الورى.



ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم. ولا نذكرهم إلا بخير وحبهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان.



ونثبت الخلافة بعد رسو ل الله صلى الله عليه وسلم أولا لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، تفضيلا له وتقديما على جميع الأمة، ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم لعثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم لعي بن أبي طالب رضي الله عنه. وهو الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون.



وأن العشرة الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشرهم بالجنة نشهد لهم بالجنة، على ما شهد لهم رسو ل الله صلى الله عليه وسلم وقوله الحق، وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح، وهو أمين هذه الأمة، رضي الله عنهم أجمعين.



ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه الطاهرات من كل دنس وذرياته المقدسين من كل رجس فقد برئ من النفاق.



وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل.



ولا نفضل أحدا من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام، ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء. نؤمن بما جاء من كراماتهم وصح عن الثقات من رواياتهم.



ونؤمن بأشراط الساعة من خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه السلام من السماء، ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها وخروج دابة الأرض من موضعها. ولا نصدق كاهنا ولا عرافا ولا من يدعي شيئا يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة.



ونرى الجماعة حقا وصوابا والفرقة زيغا وعذابا. ودين الله في الأرض والسماء واحد وهو دين الإسلام . قال الله تعالى : (( إن الدين عند الله الإسلام )) ، وقال : (( ورضيت لكم الإسلام دينا )) ، وهو بين الغلو والتقصير ، وبين التشبيه والتعطيل ، وبين الجبر والقدر ، وبين الأمن والإياس .



فهذا ديننا واعتقادنا ظاهرا وباطنا، ونحن برءاء إلى الله من كل من خالف الذي ذكرناه وبيناه.

ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان ، ويختم لنا به ويعصمنا من الأهواء المختلفة والآراء المتفرقة والمذاهب الردية مثل : المشبهة والمعتزلة والجهمية والجبرية والقدرية وغيرهم من الذين خالفوا السنة والجماعة وحالفوا الضلالة، ونحن منهم برءاء وهم عندنا ضلال وأردياء. وبالله العصمة والتوفيق .


انتهت العقيدة الطحاوية بحمد الله تعالى

----------------------------------